هذه مجموعة من الإضاءات و التأملات القرآنية لصديقي الدكتور علي إبراهيم البراهيم في اللغة القرآنية أضعها هنا لما تحتويه من فوائد ونحن نعيش أجواء شهر القرآن الكريم
من فوائد فقه اللغة في القرآن الكريم (1):
الصوت في اللغة العربية له ارتباط كبير بالدلالة والتأثير في المتلقي ،فحروف اللغة هي أصوات تصدر عن المتكلم بها لها صفات تميّزها تابعةً للمخرج الذي تصدر عنه ومتأثرة به ،ولقد اعتنى علماء اللغة وفقهها بجانب الصوت أيّما عناية ،وبالأخص في الدراسات القرآنية المرتبطة بالبلاغة ...وسأقف هنا وقفة قصيرة على ثلاثة حروف في بضع كلمات من سورة (التكوير) وهي في قوله تعالى ( فلا أقسم بالخنّس . الجوارِ الكنّس . والليل إذا عسعس . والصبح إذا تنّفس )، والحروف هي السين والكاف والنون المشددة . ولكن قبل الخوض في الأصوات لابد من معرفة معاني الكلمات ...
الخنّس: النجوم التي تختفي في النهار . الجوار الكنّس: هي الكواكب الخمسة التي تكنس أي تتوارى في بروجها وهي زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد . عسعس : أقبل ظلامه .
في الآيات السابقة يقسم الله سبحانه بتلك الكواكب التي تتوارى نهارا وهي متحركة غير ثابتة ، وعظمة ذلك القسم في عظمة ذلك الحدث في حركة هذا الكون العظيم بأبراجه ومجراته ، فالتواري والاختفاء فيه إشارة إلى عظمة نجم الشمس الذي هو سبب اختفاء هذه الجوارِ في النهار ، فعندما نتأمل كلمتي ( الخنّس) و( الكنّس) اللتين جاءتا على صيغة واحدة واتفاق في الحروف ماعدا الحاء والكاف القريبتين في المخرج والمشتركتين في بعض الصفات ..
السين من حروف الهمس والصفير فالهمس فيه جريان النفَس عند النطق ،ويشترط فيه السكون ، والصفير هو صوت زائد يخرج عند النطق بالحرف ،كما أن من صفات الكاف الهمس أيضا ...
عندما نتأمل في دلالات الهمس فإن فيه التخفي والخفّة والتواري حين الكلام ، وهذا ما يتناسب والاختفاء والتواري في الكواكب المشار إليها في الآيات ...كذلك علينا أن نلاحظ شرط السكون في النطق بالسين الذي يتناسب والكلمتين اللتين فيهما دلالة على الحركة الهادئة الساكنة ، وما زاد في جمال الوصف البديع في هاتين الكلمتين مجيئ النون المشددة قبل السين المندمجة مع الحرف الذي قبلها ، فالنون المشددة فيها غنّة والغنّة تخرج من الخيشوم ،فالناظق بها يخفي النون ليضغط بها في الخيشوم ، وفي كل ذلك اختفاء وتوارٍ ولهذا ارتباط وثيق بما أشرنا إليه من معانٍ من الكلمتين ...
يبقى الحديث عن كلمتي (عسعس) و(تنفس) نرجئه إلى فائدة لاحقة بإذن الله ...
ما أروع كلام الاه عز وجل إذا تأملناه فهو يلامس العقول والحواس والمشاعر ....
محبّ الضاد : أبو باسل
-------------
من الفوائد اللغوية في القرآن الكريم (٢):
سبق أن أشرنا في فائدة سابقة إلى دلالة استعمال الفعل الماضي في التعبير عن المستقبل ،إذ يدل على غاية المبالغة والجزم في التحقق والحصول بصفتهما نتيجة حتمية ...وفي هذا الصدد جميل أن نقف عند قوله تعالى واصفا فرعون وقومه الذين اتبعوه،في سورة هود : ( يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود ) آية (٩٨)...
ولنا فيها إشارتان :
الأولى : إن التعبير بصيغة الماضي في قوله فأوردهم) جاء ليحرف السياق في الصيغة ؛لأن الفعل قبله (يقدم) جاء في صيغة المضارع ،وكان حق الكلام أن يقال : (فيوردهم)،فلمَ جاء بصيغة الماضي (فأوردهم) مع أن الفعل السابق (يقدم) جاء في دلالة الاستقبال مؤيَّدًا بقرينة لفظية وهي الظرف (يوم القيامة) ؟!
وقف بعض المفسرين عند هذا الإشكال مثل الرازي والزمخشري فقالوا : إن التعبير بصيغة الماضي لأنه يدل على أمر موجود مقطوع به ،أي : يقدمهم فيوردهم النار لا محالة ،وإذا عُبر عن المستقبل بلفظ الماضي دل على غاية المبالغة .وقال العلامة الطوسي : وقوله : (فأوردهم النار) معناه أوجب ورودهم إلى النار .انتهى.
كما أن في اقتران الفعل (أوردهم) بالظرف (يوم القيامة) فيه دلالة على أن هذا الأمر قد سبق في علم الله ودُوّن في اللوح المحفوظ منذ الأزل ،وهو القضاء المحتوم كما يقول علماء الكلام والعقيدة.
والعجيب أن يأتي مثل الدكتور مجدي حسين في كتابه (التوجيه اللغوي لمشكل القرآن الكريم) فلا يعجبه هذا التوجيه من المفسرين ويتساءل :كيف نقطع بدخول أتباع فرعون النار فلعل الله يغفر لهم أو يعفو عنهم فلا معنى للقطع بحدوث هذا الأمر إلا الرغبة في التخلص من الإشكال المتصل باللغة .(انتهى)
أقول : كان الأجدر به أن يأتي بتوجيه آخر إذا كان توجيه العلماء لم يرق له لا أن يطرح سؤالا غريبا ليس في محله ومنتفيا بالنظر اليسير في سياق الآيات ....
إن المتأمل في الآية وما قبلها يجد أن القرآن قد قرر بأن أتباع فرعون من قومه قد أيّدوه في دعواه ،كما أن الله أكد ذلك بإتباعهم اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة فأيّ رجاء في المغفرة لهم والعفو عنهم فالأمر واضح بيّن !!!
الثانية : في قوله تعالى ( وبئس الورد المورود ) ...
الوِرْد في اللغة : الإشراف على الماء أو الماء الذي يُورد ،وقد جاءت صيغة الذم وصفا للنار ،فكيف نجمع الصورة وتتجلى لنا روعة الوصف ؟!
نقول : لقد ظنّ أتباع فرعون أنه سيقودهم إلى النجاة وما يروي ظمأهم لكن الله أخلف ظنونهم وخاب سعيهم فبدلا من تحقيق ما يريدون ويطمحون إليه كان إحراقهم بالنار وزيادة ظمئهم ظمأ ،وهذا هو وردهم إذ إن المعتاد من الوِرد هو الإقبال على الماء للارتواء ،وحين عبر القرآن عن النار -التي هي إحراق وعطش شديد- بأنها وِرد فذلك قمّة التهكم والسخرية من فرعون وأتباعه ،وإمعان في الاحتقار والعذاب .
سدد الله أفهامنا لتدبر آياته.
محبّ الضاد : أبو باسل
من فوائد فقه اللغة في القرآن الكريم (1):
الصوت في اللغة العربية له ارتباط كبير بالدلالة والتأثير في المتلقي ،فحروف اللغة هي أصوات تصدر عن المتكلم بها لها صفات تميّزها تابعةً للمخرج الذي تصدر عنه ومتأثرة به ،ولقد اعتنى علماء اللغة وفقهها بجانب الصوت أيّما عناية ،وبالأخص في الدراسات القرآنية المرتبطة بالبلاغة ...وسأقف هنا وقفة قصيرة على ثلاثة حروف في بضع كلمات من سورة (التكوير) وهي في قوله تعالى ( فلا أقسم بالخنّس . الجوارِ الكنّس . والليل إذا عسعس . والصبح إذا تنّفس )، والحروف هي السين والكاف والنون المشددة . ولكن قبل الخوض في الأصوات لابد من معرفة معاني الكلمات ...
الخنّس: النجوم التي تختفي في النهار . الجوار الكنّس: هي الكواكب الخمسة التي تكنس أي تتوارى في بروجها وهي زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد . عسعس : أقبل ظلامه .
في الآيات السابقة يقسم الله سبحانه بتلك الكواكب التي تتوارى نهارا وهي متحركة غير ثابتة ، وعظمة ذلك القسم في عظمة ذلك الحدث في حركة هذا الكون العظيم بأبراجه ومجراته ، فالتواري والاختفاء فيه إشارة إلى عظمة نجم الشمس الذي هو سبب اختفاء هذه الجوارِ في النهار ، فعندما نتأمل كلمتي ( الخنّس) و( الكنّس) اللتين جاءتا على صيغة واحدة واتفاق في الحروف ماعدا الحاء والكاف القريبتين في المخرج والمشتركتين في بعض الصفات ..
السين من حروف الهمس والصفير فالهمس فيه جريان النفَس عند النطق ،ويشترط فيه السكون ، والصفير هو صوت زائد يخرج عند النطق بالحرف ،كما أن من صفات الكاف الهمس أيضا ...
عندما نتأمل في دلالات الهمس فإن فيه التخفي والخفّة والتواري حين الكلام ، وهذا ما يتناسب والاختفاء والتواري في الكواكب المشار إليها في الآيات ...كذلك علينا أن نلاحظ شرط السكون في النطق بالسين الذي يتناسب والكلمتين اللتين فيهما دلالة على الحركة الهادئة الساكنة ، وما زاد في جمال الوصف البديع في هاتين الكلمتين مجيئ النون المشددة قبل السين المندمجة مع الحرف الذي قبلها ، فالنون المشددة فيها غنّة والغنّة تخرج من الخيشوم ،فالناظق بها يخفي النون ليضغط بها في الخيشوم ، وفي كل ذلك اختفاء وتوارٍ ولهذا ارتباط وثيق بما أشرنا إليه من معانٍ من الكلمتين ...
يبقى الحديث عن كلمتي (عسعس) و(تنفس) نرجئه إلى فائدة لاحقة بإذن الله ...
ما أروع كلام الاه عز وجل إذا تأملناه فهو يلامس العقول والحواس والمشاعر ....
محبّ الضاد : أبو باسل
-------------
من الفوائد اللغوية في القرآن الكريم (٢):
سبق أن أشرنا في فائدة سابقة إلى دلالة استعمال الفعل الماضي في التعبير عن المستقبل ،إذ يدل على غاية المبالغة والجزم في التحقق والحصول بصفتهما نتيجة حتمية ...وفي هذا الصدد جميل أن نقف عند قوله تعالى واصفا فرعون وقومه الذين اتبعوه،في سورة هود : ( يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود ) آية (٩٨)...
ولنا فيها إشارتان :
الأولى : إن التعبير بصيغة الماضي في قوله فأوردهم) جاء ليحرف السياق في الصيغة ؛لأن الفعل قبله (يقدم) جاء في صيغة المضارع ،وكان حق الكلام أن يقال : (فيوردهم)،فلمَ جاء بصيغة الماضي (فأوردهم) مع أن الفعل السابق (يقدم) جاء في دلالة الاستقبال مؤيَّدًا بقرينة لفظية وهي الظرف (يوم القيامة) ؟!
وقف بعض المفسرين عند هذا الإشكال مثل الرازي والزمخشري فقالوا : إن التعبير بصيغة الماضي لأنه يدل على أمر موجود مقطوع به ،أي : يقدمهم فيوردهم النار لا محالة ،وإذا عُبر عن المستقبل بلفظ الماضي دل على غاية المبالغة .وقال العلامة الطوسي : وقوله : (فأوردهم النار) معناه أوجب ورودهم إلى النار .انتهى.
كما أن في اقتران الفعل (أوردهم) بالظرف (يوم القيامة) فيه دلالة على أن هذا الأمر قد سبق في علم الله ودُوّن في اللوح المحفوظ منذ الأزل ،وهو القضاء المحتوم كما يقول علماء الكلام والعقيدة.
والعجيب أن يأتي مثل الدكتور مجدي حسين في كتابه (التوجيه اللغوي لمشكل القرآن الكريم) فلا يعجبه هذا التوجيه من المفسرين ويتساءل :كيف نقطع بدخول أتباع فرعون النار فلعل الله يغفر لهم أو يعفو عنهم فلا معنى للقطع بحدوث هذا الأمر إلا الرغبة في التخلص من الإشكال المتصل باللغة .(انتهى)
أقول : كان الأجدر به أن يأتي بتوجيه آخر إذا كان توجيه العلماء لم يرق له لا أن يطرح سؤالا غريبا ليس في محله ومنتفيا بالنظر اليسير في سياق الآيات ....
إن المتأمل في الآية وما قبلها يجد أن القرآن قد قرر بأن أتباع فرعون من قومه قد أيّدوه في دعواه ،كما أن الله أكد ذلك بإتباعهم اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة فأيّ رجاء في المغفرة لهم والعفو عنهم فالأمر واضح بيّن !!!
الثانية : في قوله تعالى ( وبئس الورد المورود ) ...
الوِرْد في اللغة : الإشراف على الماء أو الماء الذي يُورد ،وقد جاءت صيغة الذم وصفا للنار ،فكيف نجمع الصورة وتتجلى لنا روعة الوصف ؟!
نقول : لقد ظنّ أتباع فرعون أنه سيقودهم إلى النجاة وما يروي ظمأهم لكن الله أخلف ظنونهم وخاب سعيهم فبدلا من تحقيق ما يريدون ويطمحون إليه كان إحراقهم بالنار وزيادة ظمئهم ظمأ ،وهذا هو وردهم إذ إن المعتاد من الوِرد هو الإقبال على الماء للارتواء ،وحين عبر القرآن عن النار -التي هي إحراق وعطش شديد- بأنها وِرد فذلك قمّة التهكم والسخرية من فرعون وأتباعه ،وإمعان في الاحتقار والعذاب .
سدد الله أفهامنا لتدبر آياته.
محبّ الضاد : أبو باسل