السبت، 20 يونيو 2015

من الفوائد اللغوية في القرآن الكريم للدكتور علي إبراهيم البراهيم

هذه مجموعة من الإضاءات و التأملات القرآنية لصديقي الدكتور علي إبراهيم البراهيم في اللغة القرآنية أضعها هنا لما تحتويه من فوائد ونحن نعيش أجواء شهر القرآن الكريم

من فوائد فقه اللغة في القرآن الكريم (1): 

الصوت في اللغة العربية له ارتباط كبير بالدلالة والتأثير في المتلقي ،فحروف اللغة هي أصوات تصدر عن المتكلم بها لها صفات تميّزها تابعةً للمخرج الذي تصدر عنه ومتأثرة به ،ولقد اعتنى علماء اللغة وفقهها بجانب الصوت أيّما عناية ،وبالأخص في الدراسات القرآنية المرتبطة بالبلاغة ...وسأقف هنا وقفة قصيرة على ثلاثة حروف في بضع كلمات من سورة (التكوير) وهي في قوله تعالى ( فلا أقسم بالخنّس . الجوارِ الكنّس . والليل إذا عسعس . والصبح إذا تنّفس )، والحروف هي السين والكاف والنون المشددة . ولكن قبل الخوض في الأصوات لابد من معرفة معاني الكلمات ...

الخنّس: النجوم التي تختفي في النهار . الجوار الكنّس: هي الكواكب الخمسة التي تكنس أي تتوارى في بروجها وهي زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد . عسعس : أقبل ظلامه .
في الآيات السابقة يقسم الله سبحانه بتلك الكواكب التي تتوارى نهارا وهي متحركة غير ثابتة ، وعظمة ذلك القسم في عظمة ذلك الحدث في حركة هذا الكون العظيم بأبراجه ومجراته ، فالتواري والاختفاء فيه إشارة إلى عظمة نجم الشمس الذي هو سبب اختفاء هذه الجوارِ في النهار ، فعندما نتأمل كلمتي ( الخنّس) و( الكنّس) اللتين جاءتا على صيغة واحدة واتفاق في الحروف ماعدا الحاء والكاف القريبتين في المخرج والمشتركتين في بعض الصفات ..
السين من حروف الهمس والصفير فالهمس فيه جريان النفَس عند النطق ،ويشترط فيه السكون ، والصفير هو صوت زائد يخرج عند النطق بالحرف ،كما أن من صفات الكاف الهمس أيضا ...

عندما نتأمل في دلالات الهمس فإن فيه التخفي والخفّة والتواري حين الكلام ، وهذا ما يتناسب والاختفاء والتواري في الكواكب المشار إليها في الآيات ...كذلك علينا أن نلاحظ شرط السكون في النطق بالسين الذي يتناسب والكلمتين اللتين فيهما دلالة على الحركة الهادئة الساكنة ، وما زاد في جمال الوصف البديع في هاتين الكلمتين مجيئ النون المشددة قبل السين المندمجة مع الحرف الذي قبلها ، فالنون المشددة فيها غنّة والغنّة تخرج من الخيشوم ،فالناظق بها يخفي النون ليضغط بها في الخيشوم ، وفي كل ذلك اختفاء وتوارٍ ولهذا ارتباط وثيق بما أشرنا إليه من معانٍ من الكلمتين ...

يبقى الحديث عن كلمتي (عسعس) و(تنفس) نرجئه إلى فائدة لاحقة بإذن الله ...
ما أروع كلام الاه عز وجل إذا تأملناه فهو يلامس العقول والحواس والمشاعر ....

محبّ الضاد : أبو باسل


-------------

من الفوائد اللغوية في القرآن الكريم (٢):

سبق أن أشرنا في فائدة سابقة إلى دلالة استعمال الفعل الماضي في التعبير عن المستقبل ،إذ يدل على غاية المبالغة والجزم في التحقق والحصول بصفتهما نتيجة حتمية ...وفي هذا الصدد جميل أن نقف عند قوله تعالى واصفا فرعون وقومه الذين اتبعوه،في سورة هود : ( يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود ) آية (٩٨)...

ولنا فيها إشارتان :

الأولى : إن التعبير بصيغة الماضي في قوله فأوردهم) جاء ليحرف السياق في الصيغة ؛لأن الفعل قبله (يقدم) جاء في صيغة المضارع ،وكان حق الكلام أن يقال : (فيوردهم)،فلمَ جاء بصيغة الماضي (فأوردهم) مع أن الفعل السابق (يقدم) جاء في دلالة الاستقبال مؤيَّدًا بقرينة لفظية وهي الظرف (يوم القيامة) ؟!

وقف بعض المفسرين عند هذا الإشكال مثل الرازي والزمخشري فقالوا : إن التعبير بصيغة الماضي لأنه يدل على أمر موجود مقطوع به ،أي : يقدمهم فيوردهم النار لا محالة ،وإذا عُبر عن المستقبل بلفظ الماضي دل على غاية المبالغة .وقال العلامة الطوسي : وقوله : (فأوردهم النار) معناه أوجب ورودهم إلى النار .انتهى.

كما أن في اقتران الفعل (أوردهم) بالظرف (يوم القيامة) فيه دلالة على أن هذا الأمر قد سبق في علم الله ودُوّن في اللوح المحفوظ منذ الأزل ،وهو القضاء المحتوم كما يقول علماء الكلام والعقيدة.

والعجيب أن يأتي مثل الدكتور مجدي حسين في كتابه (التوجيه اللغوي لمشكل القرآن الكريم) فلا يعجبه هذا التوجيه من المفسرين ويتساءل :كيف نقطع بدخول أتباع فرعون النار فلعل الله يغفر لهم أو يعفو عنهم فلا معنى للقطع بحدوث هذا الأمر إلا الرغبة في التخلص من الإشكال المتصل باللغة .(انتهى)

أقول : كان الأجدر به أن يأتي بتوجيه آخر إذا كان توجيه العلماء لم يرق له لا أن يطرح سؤالا غريبا ليس في محله ومنتفيا بالنظر اليسير في سياق الآيات ....

إن المتأمل في الآية وما قبلها يجد أن القرآن قد قرر بأن أتباع فرعون من قومه قد أيّدوه في دعواه ،كما أن الله أكد ذلك بإتباعهم اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة فأيّ رجاء في المغفرة لهم والعفو عنهم فالأمر واضح بيّن !!!
الثانية : في قوله تعالى ( وبئس الورد المورود ) ...
الوِرْد في اللغة : الإشراف على الماء أو الماء الذي يُورد ،وقد جاءت صيغة الذم وصفا للنار ،فكيف نجمع الصورة وتتجلى لنا روعة الوصف ؟!

نقول : لقد ظنّ أتباع فرعون أنه سيقودهم إلى النجاة وما يروي ظمأهم لكن الله أخلف ظنونهم وخاب سعيهم فبدلا من تحقيق ما يريدون ويطمحون إليه كان إحراقهم بالنار وزيادة ظمئهم ظمأ ،وهذا هو وردهم إذ إن المعتاد من الوِرد هو الإقبال على الماء للارتواء ،وحين عبر القرآن عن النار -التي هي إحراق وعطش شديد- بأنها وِرد فذلك قمّة التهكم والسخرية من فرعون وأتباعه ،وإمعان في الاحتقار والعذاب .

سدد الله أفهامنا لتدبر آياته.

محبّ الضاد : أبو باسل

تأملات في النحو القرآني للدكتور علي إبراهيم البراهيم

هذه مجموعة من الإضاءات و التأملات القرآنية لصديقي الدكتور علي إبراهيم البراهيم في النحو القرآني و البلاغة القرآنية أضعها هنا لما تحتويه من فوائد ونحن نعيش أجواء شهر القرآن الكريم

فائدة من النحو القرآني (1):


إن الأصل والأكثر في ( ما ) أن تأتي لغير العاقل ولكنها جاءت للعاقل قي بعض كلامهم وفي القرآن في أكثر من موضع ....


جميل أن نتأمل قوله تعالى : ( فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم )

فما هنا موصولة دلت على العاقل أي : ما ملكته أيمانكم ، ويمكن أن تكون مصدرية بتقدير : ملك أيمانكم .

وتأمل قوله تعالى : ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء ) وهنا يمكن أن تكون موصولة دلت على العاقل ، ويمكن أن تكون مصدرية وفي كل حالة تقدير وتبعا لذلك يختلف الحكم المستفاد من الآية وإليكم الحالتين :

الأولى : إذا اعتبرناها موصولة للعاقل فيكون التقدير : ( ولا تنكحوا من نكحهن آباؤكم ) وعليه يكون المراد تحريم نكاح نساء الآباء .

الثانية : إذا اعتبرناها مصدرية فيكون التقدير : ولا تنكحوا نكاح آبائكم ) ويكون المراد تحريم طرق النكاح التي كان يتبعها الآباء في الجاهلية .

ما أجمل الغوص في مكنون اللغة إذا اقترن بالقرآن الكريم وما أروع النحو القرآني !

محبّ الضاد : ( أبوباسل )


-------
من فوائد النحو القرآني (٢): 

نستعمل كثيرا (ما) استفهامية مركبة مع (ذا) فنقول : (ماذا) وللنحاة في إعرابها أوجه متعددة ، وفي القرآن جاءت بمنزلة اسم واحد ، وجاءت مركبة من (ما) الاستفهامية ومن (ذا) التي بمنزلة (الذي) ، وأجاز بعض النحاة أن تكون كلها بمنزلة ( الذي) كما في قوله تعالى : ( قل انظروا ماذا في السموات والأرض) وقوله frown emoticon هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه ) وقوله : ( وما تدري نفس ماذا تكسب غدا ) ففي الآيات السابقة يمكن توجيه (ماذا) بمعنى ( الذي) ...

ولكن هل من فرق حين استعمالها دالة على الاستفهام بين ( ماذا ) و(ما) ؟

في سياق القرآن الكريم يظهر الفرق فاستعمال ( ماذا ) في الاستفهام أبلغ من ( ما ) فحين يراد من الاستفهام معنى التبكيت والتوبيخ واللوم من دون جواب تأتي ( ماذا ) ... تأمل معي قوله تعالى في سياق أحداث قصة نبي الله إبراهيم ع : ( إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون ، أئفكا آلهة دون الله تريدون ) فقد استعمل (ماذا) لأنه أراد التوبيخ واللوم .

ولكن وفي سياق الأحداث نفسها في سورة أخرى استعمل القرآن ( ما ) لأنه لم يرد المعنى السابق بل استفهام جاء بعده جواب وذلك في قوله تعالى من سورة الشعراء frown emoticon إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون ، قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين ) ...
ما أروع التأمل في كتاب الله عز وجل .

محب الضاد : أبوباسل

----

من فوائد النحو القرآني (3):

اسم الفاعل - كما يقول النحاة - يدل على الحدث والحدوث وفاعله . ويقصدون بالحدوث ما يقابل الثبوت أي التغيّر وعدم الملازمة ، ولكنه يقع وسطا بين الفعل الذي يدل على التجدد والحدوث ، والصفة المشبهة التي تدل على الثبوت والدوام ، فكلمة ( قائم ) أدوم وأثبت من قولي ( قام ) ولكن ثبوتها ليس كثبوت كلمة (طويل) و(قصير ) اللتان هما صفتان مشبهتان ، فالقيام يمكن تغييره وتجدده ولكن الطول والقصر ثابتان لا يتجددان ، وعلى هذا الأساس فلنتأمل قوله تعالى مخاطبا حبيبه المصطفى ص : ( فلعلّك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك ) إذ لم يأت من صفتي الترك والضيق لا بصيغة الماضي (ترك) و (ضاق) فيدل على ثبات ذلك في الماضي، ولا بالصفة المشبهة ( ترِك ) و ( ضيّق) فيدل ذلك على الثبوت والدوام المستمرين ، وباعتبار أن الضيق والترك كانا عارضين للنبي ص وليس هما من صفاته - ونقصد ب (عارض) هنا ما يناسب المقام ولنلتفت إلى بداية الآية ( فلعلّك ) التي هي للترجي - ولذلك جاء باسم الفاعل ليعبر عن المعنى بأدق تعبير ...

ما أروع التعبير القرآني المنسجم مع الذوق العربي السليم ...

زادكم الله تدبرا في آياته .

محبّ الضاد : أبو باسل

------
من فوائد النحو القرآني (4) : 

إن الصيغة الأساس التي تدل على اسم المفعول في اللغة هي (مَفْعُول) للمأخوذ من الثلاثي ، أو على صيغة المضارع المبني للمجهول بإبدال حرف المضارعة ميما مضمومة وفتح ما قبل الآخر ، وقال النحاة إن هناك صيغا أخرى تدل على المفعول من غير الصيغتين السابقتين نحو ( فعيل) كقولنا : جريح بمعنى مجروح ، ونحو (فعيلة) كذبيحة بمعنى مذبوح ، غير أنّ هناك من فرّق بين المعنيين وأشار إلى اختصاص كل صيغة بمعنى لا يحصل في الأخرى ، وهذا ما نلمسه حين نتأمل كلمتي (رسول) و (مُرسَل) في القرآن الكريم ...

أشار النحاة إلى صيغ أخرى تدل على المفعول نحو ( فَعُول) ك( رسول) بمعنى مرسَل ، فهل هذا منسجم مع تعبيرات وسياقات القرآن الكريم ؟!

وردت الكلمتان كثيرا في القرآن وبشكل يصعب حصره هنا والمتأمل فيهما يجد أنهما لا يتفقان تماما في المعنى إذ إن إحداهما تعمّ الأخرى وتشملها، قالقرآن حين يريد الإشارة إلى حدث الرسالة التي هي سفارة بينه سبحانة وخلقه وهو ما نسميه (الحدث)، والاختيار لشخص معيّن اختصه الله بها وهو (الحدوث) ، وشخص الرسول نفسه وهو ( ذات المفعول) يأتي التعبير بلفظ (رسول) ، أما إذا شملت اللفظة هذه المعاني وغيرها بمعنى اشتراك الرسل وغيرهم في معنى الرسالة فتأتي لفظة ( مرسَل) سواء أكانت بصيغة المفرد أو الجمع ، إذ نجد أن الله أطلق على الملائكة الذين جاؤوا لإبراهيم ع كلمة ( مرسلون) فقال : ( فما خطبكم أيها المرسلون) ، وأطلق على الرياح ( مرسلات) في قوله frown emoticon والمرسلات عرفا ...) ، وأطلق على من بعثتهم بلقيس بالهدايا إلى نبي الله سليمان (مرسلون) فقال الله على لسانها : ( وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون) وهكذا ... فمن الصعب أن نقول إن كلمتي (رسول) و(مرسل) تتحدان في في الدلالة !

إن في صيغ اللغة دلالات عميقة وأسرارا خفية تحتاج إلى تأمل ونظر دقيق لا يكشفها إلا النظر في كتاب الله العزيز ...

رزقنا الله وإياكم حسن التدبر في آياته .

محبّ الضاد : أبوباسل

-------
من فوائد النحو القرآني (5) : 

في اللغة العربية أفعال تتعدى إلى مفعولها بنفسها من دون واسطة ،فأقول : كسرتُ النافذةَ ، وحفظتُ القصيدةَ ، وأفعال أخرى تتعدى بحرف الجر ،فأقول : رغبتُ فيه ،وعدلتُ عنه ، ونلمس الفرق حين نتأمل الفعلين (كسر وحفظ) في الجملتين الأوليين ووقوعهما على المفعول ، والفعلين (رغب وعدل) في الجملتين الأخريين وعلاقتهما بالمجرور ؛إذ ليس وقوع الكسر على النافذة والحفظ على القصيدة كوقوع الرغبة والعدول فتأمل ...

ولكن عندما نتأمل آيات القرآن الكريم نجد أفعالا هي متعدية بنفسها ولا تحتاج إلى حرف الجر لتصل إلى مفعولها غير أنها جاءت متعدية بحرف الجر ،نحو قوله تعالى في سورة الأعراف frown emoticon ولمّا سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون ) والمراد هنا هو ذيل الآية (هم لربهم يرهبون) فالفعل (رهِب) بمعنى : خاف ،يتعدى بنفسه فلِمَ جاءت اللام في المفعول المتقدم (لربهم) ؟!

يقول النحاة : إن الفعل إذا تأخر عن مفعوله ضعف في العمل والمعنى فتأتي اللام لتقوية المفعول فيقوى عمل الفعل ، كما في قوله تعالى : ( إن كنتم للرؤيا تعبرون ) ...

والغريب أن بعض النحاة عندما يعبر بالزيادة عن بعض حروف الجر لا يعلل لذلك فيتوهم القارئ أن الحرف لا أثر له ولا دلالة ، فيكون وجوده وعدمه سواء ، وهذا لا يتناسب ونظم القرآن الكريم لأنه لا زيادة دون فائدة في القرآن أبدا ...

وقد وجّه آخرون اللام على أنها لام العلّة والمعمول محذوف أي : يرهبون المعاصي لأجل ربهم لا لشيء آخر ، وهذا وجه حسن ...

أما من قال : إن المراد (راهبون لربهم ) فأقول : إن ذلك غريب إذ إن تأويل الفعل بالاسم الذي جاء به هنا (اسم فاعل) لا يغيّر في عمله شيئا ؛ لأن اسم الفاعل يعمل عمل فعله فيمكن أن أقول : هم راهبون ربهم ، أو ربَّهم راهبون ، أي بتعدية اسم الفاعل إلى مفعوله مباشرة فلا يكون هذا التوجيه ناهضا ... فتأمل 

ما أروع التأمل في لغتنا الجميلة حين يكون في كتاب الله.

محبّ الضاد : أبو باسل


----
من فوائد النحو القرآني (6) : 

من المواقف التي تكرر ذكرها في القرآن الكريم موقف إبليس من أمر الله له بالسجود لآدم وقد وردت الحادثة في سياقات متعددة منها ما ورد في سورة الأعراف قوله تعالى frown emoticon قال ما منعك ألّا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ) . وفي سورة ص قوله تعالى ( قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيديّ أستكبرت أم كنت من العالين قال ...) ، وما نريد أن نقف عليه هنا للنظر والتأمل هو في الفعل (تسجد) فقد ورد في آية سورة الأعراف مسبوقا بلا ،وغير مسبوق بها في سورة ص ،فماذا يعني ذلك وهل من غرض بلاغي ؟!

إن جمهور النحاة والمفسرين يقولون بأن (لا) هنا زائدة جاءت للتوكيد والتحقيق ويستدلون بما ورد في آية سورة ص إذ ورد الفعل من دونها ،فهل هذا مقنع حقا ؟!

نقول : لقد ذهب نحاة آخرون إلى أن (لا)غير زائدة وإنما هي نافية إذ لا يقرون بمبدأ الزيادة في القرآن وهذا بحث أفاض فيه كثير من أهل اللغة ولسنا بصدده هنا ...

لقد أوّل بعضهم وقدّر الكلام مع وجود (لا) فقال إن التقدير : من قال لك لا تسجد ... أو أيّ شيء اضطرك للسجود ،أو ما صيّرك لا تسجد وهكذا ...

ويقدرون المعنى مع الثانية التي ورد فيها الفعل من دون (لا) بقولهم : أي شيء منعك من السجود ...

[COLOR="rgb(139, 0, 0)"]ولكن هل يكفي ذلك لإقناعنا بوجود (لا) في آية وعدم وجودها في الأخرى ؟! [/COLOR]

نقول : إن التأمل في الجملة الظرفية ( إذ أمرتك) التي جاءت بعد الفعل (تسجد) مع (لا) يحل الإشكال ويظهر المغزى البلاغي البديع إذ إن وجود فعل الأمر مع (إذ) الظرفية ناسب أن يأتي الفعل (تسجد) منفيا لبيان فداحة الإمر وقبح العصيان من إبليس إذ اقترن النفي بالأمر ... بمعنى أن عظمة الأمر قابلها عظمة الفعل المشين القبيح الصادر من إبليس وهو عدم السجود مع أن ذلك أمر من الله عزوجل ... كما أقول لشخص -هو أدنى مني وتحت سيطرتي وأمري وأطلب منه أن يفعل شيئا فلا يفعل- : لا تسمع كلامي وقد أمرتك !

وإذا تاملنا ذلك وفهمنا المطلب عرفنا سبب وجود (لا) في سياق وعدم وجودها في سياق آخر ،ولذلك فإن آية سورة ص خلت من (لا) لأنها خلت من ذكر فعل الأمر ...
سبحان من جعل القرآن محلا للتدبر والتفكر ، ومستودعا لأسرار البلاغة ...

محبّ الضاد : أبو باسل


الجمعة، 19 يونيو 2015

إضاءات في بلاغة القرآن الكريم للدكتور علي إبراهيم البراهيم

هذه مجموعة من الإضاءات و التأملات القرآنية لصديقي الدكتور علي إبراهيم البراهيم في النحو القرآني و البلاغة القرآنية أضعها هنا لما تحتويه من فوائد ونحن نعيش أجواء شهر القرآن الكريم

من فوائد البلاغة القرآنية (1):

من بديع بلاغة القرآن الكريم جمال التكرار المنسجم الذي يقبله الذوق السليم ولا تملّه الأذن ولا تنفر منه النفس ، وذلك كثير في القرآن .... ولكنّ ما جاء في سورة الرحمن من تكرار آية ( فبأيّ آلاء ربكما تكذبان ) أمر ملفت يستدعي الوقوف والتأمل ...

تكررت الآية الشريفة إحدى وثلاثين مرة وهو من أكثر صور التكرار في القرآن ، والجميل أن هذا التكرار قد سبقه تمهيد رائع بتكرار كلمة ( الميزان) في الآيات الأولى من السورة إذ لم تأت الآية ( فبأيّ آلاء ...) إلا بعد اثنتي عشرة آية ، وقد تكررت كلمة (الميزان) ثلاث مرات في ثلاث آيات متواليات لتمهد للإذن بلحن موسيقي عذب لنتقبل صور التكرار القادمة ولنألفها وتأنس بها النفس فلا تفاجأ بفواصل الآية المكررة ...

إن الجو السائد في سورة الرحمن هو تعداد النعم على الخلق إنسا وجنّا فكانت الآية تأتي بعد ذكر كل نعمة أو مجموعة من النعم لتقوم بدور التذكير والتقرير ، وأن هذه النعم لا مجال لإنكارها أو تكذيبها ، ولكي يدرك الإنسان مدى فضل الله عليه ...

زيادة على ذلك فإن في التكرار نوعا من التوبيخ والتقريع لأن في تعداد النعم تقريع لمن أنكرها وجحد حق المُنعم ...

ولكنّ المتأمل في تكرار هذه الآية يجد أنها جاءت بعد ما هو ليس بنعمة كالوعيد والتهديد وصور العذاب كما في قوله تعالى : ( يرسل عليهما شواظ ...) وقوله : ( يعرف المجرمون ... ) وقوله ( هذه جهنم التي يكذب ...) فكيف يستقيم التوجيه السابق ؟!

نقول إن البلاغيين لهم توجيه جميل . وهو أن الإنذار والوعيد وبيان مآل الضالين فيه عصمة للإنسان من الوقوع فيما وقعوا فيه فيكون له المصير نفسه ، فتكون هذه المواضع مندرجة تحت النعم فإيصال الخير والدعوة إليه نعمة ودفع الشر والتحذير منه نعمة أيضا ...

- ما أروع أن نقف على آيات الله متأملين متدبرين ... وفقنا الله وإياكم للتدبر في كتاب الله العزيز ...

محب الضاد : أبو باسل


-----
من فوائد البلاغة القرآنية (2) : 

إن بلاغة التشبيه في القرآن الكريم تعتمد على بناء الصورة بناء محكما ناظرا لكل العلاقات الداخلية والخارجية ، تمتزج فيها المفردة بالسياق والمشبه بالمشبه به والمستعار بالمستعار منه والحقيقة بالمجاز فتبدو لنا صورة رائعة أخّاذة تستأثر بإدراك العقول حينا ، وتمتلك مشاعر النفس وشغاف القلوب حينا آخر ....

إذا وقفنا على بناء الصورة الجزئية في تشبيهات القرآن نجدها مرتبطة ارتباطا وثيقا بالإطار العام للفكرة المطروحة الواردة في السياق ...

لنتأمل قوله تعالى في سورة (هود) واصفا سفينة نوح حين حلّ في قومه العذاب وجاءهم الطوفان : (وهي تجري بهم في موج كالجبال) المشبه هنا (الموج) والمشبه به (الجبال) ووجه الشبه : العلو والارتفاع والضخامة ....

إن الصورة فيها هول وترويع وهيبة فالأمواج عاتية باعثة على الخوف ...فمع التناسب الشكلي في الصورة التشبيهية هناك تناسب نفسي شعوري أيضا وهو حالة الرهبة والخوف ...إن الصورة ليست مرعبة لمن هم على متن السفينة بل هي مرعبة لمن تخلف عنها أيضا ... إن السفينة تمثل النجاة والأمان الذي حُرم منه كثير ممن غلبت عليه شقوته ولم يسمع لنداء نبي الله ع ... إن الصورة تختزن في ذهن المتلقي هذه الصورة المهولة لمن يعاند ويعرض عن نداء الحق ولذلك فإن التشبيه بالجبل فيه إشارة إلى الأمن والحماية فالجبل يلجأ إليه الإنسان وقت الشدة والخوف ...

نحن نفهم الصورة الآن وندرك هول الموقف ولكن ابن نوح ع لم يكن يدرك ذلك المشهد واعتقد أنه ناجٍ من الغرق فقال : (سآوي إلى جبل يعصمني من الماء ) ولم يكن يعلم أن الموج سيعلو الجبال فلن تعصمه ولم يكن يعلم أن الموج كالجبال وهو التشبيه الوارد ....

هنا أقتنص معنى دقيقا لطيفا في الآية يتمثل في حرف الجر (في) في قوله في موج كالجبال) فهي هنا تعني الظرفية المكانية بأجلى صورها وأدق معانيها فقد أظهرت لنا حالة الامتزاج التام في الموقف المهول فالعادة أن يستخدم مع الفعل (يجري أو تجري) حرف الجر (على) لكن عندما نقول (في) فإن الدلالة موغلة في الظرفية والاشتمال والإحاطة بالشيء وبالأخص في صورة بيانية كالصورة القرآنية ...

وهناك صور كثيرة يمكن أن نكشفها بالتأمل الدقيق في تعبير موجز مركز أتركها خشية الإطالة ...
جعلنا الله وإياكم ممّن يتدبر في كتابه العزيز

محب الضاد : أبو باسل


-----
من فوائد البلاغة القرآنية (3): 

نتابع هنا ما أشرنا إليه في فائدة سابقة حين تحدثنا عن موسيقى الألفاظ وجرس الحروف في القرآن الكريم ...

إن كثيرا من ألفاظ القرآن تحمل معها إيحاءات كثيرة تفتح مخيلة القارئ أو السامع المتأمل على معاني عجيبة طريفة ،ولا سيّما إذا امتزجت تلك الألفاظ مع السبك البديع لنظم القرآن ،فقد يكون اللفظ غريبا قليل الاستعمال ، ولكنّ حسنه وتجانسه يظهر متجليا في أبهى صوره في سياقات القرآن ...

إن (الرافعي) -وهو ممن كتب في إعجاز القرآن وبلاغته- قد التفت إلى غرابة كلمة (ضيزى) في سورة النجم من قوله تعالى (ألكم الذكر وله الأنثى، تلك إذا قسمة ضيزى) ، فيرى أن غرابة اللفظة أشد الأشياء ملاءمة لغرابة هذه القسمة التي أنكرها القرآن ،فالمعاني السابقة واللاحقة للآية كلها تُختزَل في هذه الكلمة إذ جمعت الإنكار والتهكم .(انتهى كلام الرافعي -بتصرف-)...
أقول : لا نريد -هنا- أن نقف عند تفسير الآيات والمعاني الواردة فيما سيق ولحق الآية المعنية (تلك إذا قسمة ضيزى) فالمتأمل يدرك جور افتراءات المشركين فيما نسبوه لله عزوجل ، ولكن لنا هنا إشارتان فيما يخص كلمة (ضيزى) :
الأولى : إن كلمة (ضيزى) هي في الأصل (ضئزى)مهموزة وهي بمعنى (جائرة) ،ولكن القرآن لم يأت بها مهموزة على الأصل بل جاءت بالياء-وهي ظاهرة موجودة في اللغة كثيرا إذ تُقلب الهمزة ياء في كثير من الكلمات ، فهل من غرض بلاغي لهذه الظاهرة هنا في هذه الكلمة ؟!
إن حرف الضاد من الحروف الثقيلة في النطق ومن أصعبها ولا تظهر شدته إلا بمدّه ، والهمزة بعد الضاد تؤدي إلى قطعه فينقطع معه النفس بالحرف ،وأما الياء التي امتدت بعد الكسر فهي تعطي الحرف فسحة للظهور والبروز فتظهر شدته من لينه ،وهو ما يتناسب مع دلالة اللفظة ...

الثانية : إن الغرابة التي نستشعرها في كلمة (ضيزى) ناشئة من اجتماع حرفي الضاد والزاي فيها ،إذ من النادر جدا في ألفاظ اللغة العربية أن يجتمع هذان الحرفان في كلمة واحدة ، وكلا الحرفين فيهما من الصفات ما يخلق من اجتماعهما في كلمة واحدة باعثا قويا على إيحاءات كثيرة ودلالات تختزل كل علامات الاستفهام والتعجب والدهشة التي ترتسم في مخيلة القارئ أو المستمع للآيات الواردة فيها هذه اللفظة التي بدت منسجمة متناسقة مقبولة بعد أن كانت ثقيلة نابية غريبة ....

نسأل الله أن يلهمنا التدبر في آيات كتابه العزيز ...

محب الضاد : أبو باسل


--------------
من فوائد البلاغة القرآنية (4) : 

من الفنون البلاغية الجميلة في علم المعاني فنّ الالتفات الذي يؤدي إلى إيحاءات كثيرة ولطائف وأسرار جمّة تحتاج إلى ذوق رفيع وحس شفاف ،وهذا الفنّ -كما عبر العلامة ابن الأثير - يسمى شجاعة العربية لأن الشجاعة هي الإقدام وذلك أن الرجل الشجاع يركب ما لا يستطيعه غيره ويتورد ما لا يتورده سواه ، وكذلك هو الالتفات في الكلام فإن اللغة العربية تختص به دون غيرها من اللغات . (انتهى) ...

ولسنا هنا بصدد إثبات وجود هذا الفن في اللغات الأخرى من عدمه ... وجميل ما عبّر به الدكتور محمد أبو موسى عن هذا الفن معلقا على كلام ابن الأثير ،يقول: " إنك ترى الكلام بهذا الفن يلتفت ههنا وههنا وكأن الأسلوب يتحرك ويتلفت " انتهى .

فما معنى الالتفات في الأسلوب البليغ ؟ 

عرّف البلاغيون الالتفات بعدة تعريفات ولهم في ذلك مذهبان : مذهب الجمهور ،ومذهب السكاكي ،وسنأخذ -هنا- بقول الجمهور ،يقولون : إنه التعبير عن معنى بطريق من الطرق الثلاثة بعد التعبير عنه بطريق آخر منها ،والطرق الثلاثة هي :التكلم والخطاب والغيبة . ولكي نبسط العبارة فنجعلها أكثر سهولة نقول : هو الانتقال من ضمير المتكلم إلى ضمير المخاطب أو الغيبة ،ومن ضمير المخاطب إلى ضمير التكلم أو الغيبة ، وذلك في سياق واحد. وقد زخر القرآن الكريم بأمثلة كثيرة على هذا الفن البديع وقف عندها البلاغيون وقفة تأمل فخرجوا بإيحاءات وأسرار لطيفة تخدم المعنى وتجلّي الصورة ،ومثال على ذلك قوله تعالى في سورة يونس : "...حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكوننّ من الشاكرين "

حين نتأمل الآية في مطلعها نجد فعل الخطاب (كنتم) وبعده جاء فعلٌ انحرف بالسياق من الخطاب إلى الغيبة وهو الفعل (وجرين بهم) فلِمَ لم يقل القرآن وجرين بكم) ليتناسب وفعل الخطاب قبله (كنتم) ؟!

المخاطَبون في الآية هم الذين إذا أنجاهم الله من هول البحر والموج بغوا في الأرض بغير الحق وعادوا إلى عهدهم السابق من الانحراف والبغي والفساد والشرك بالله ،وهذا فعل شنيع عجيب يستحق صاحبه التشهير والعتاب والتوبيخ ،فالعدول من الخطاب إلى الغيبة فيه امتهان لهؤلاء وتحقير لهم لأنهم كانوا في مقام الخطاب حين كانوا في الفلك في مقام الشهود والوجود ،ولمّا جرت بهم الريح ذهبوا بعيدا عن مقام الخطاب فلاءم حالهم حال الغيبة فصارت قصتهم تُروى لغيرهم ،كمن يروي قصةً أحداثها قد مضت وأشخاصها غائبة ...

هذا ما ألفت إليه بعض البلاغيين في الآية ،وأضيف هنا فأقول : لقد توالت الأفعال المرتبطة بحالة الغيبة بعد الفعل (جرين بهم) نحو: جاءتها،جاءهم،أحيط بهم، وذلك للإمعان في حالة البعد المعنوي الذي كانوا فيه حين داهمت الريح الفلك ،والجميل أن نقف هنا عند الفعلين (جاءتها) و(جاءهم) ...ففي الأول جاء ضمير الغيبة لغير العاقل ،وفي الثاني جاء لجمع العاقل ...

في الفعل الأول (جاءتها) الضمير (الهاء)يعود على الريح الطيبة التي فرحوا بها ،وليس على الفلك كما يتوهم بعضهم ،وهنا يشير القرآن إلى ذهاب الريح بالريح مع الفارق الكبير بين الريحين ومع أن المتأثر بالريح هي الفلك إلا أن عود الضمير في فعل الريح على الريح هو إثباتٌ للتأثير في المؤثر ،ومن آثار الريح هو هيجان البحر فترتفع أمواجه وتتلاطم ويكون في ذلك رعب وخوف لمن هم في الفلك ؛ولذا قال الله تعالى في الفعل الثاني (فجاءهم الموج) بضمير الغيبة العائد على العاقل ليصور الحالة الرهيبة التي وقعوا فيها فينشدون إلى الله المنقذ ويخلصون في الدعاء لأنهم وقعوا في مأزق شديد إلا أن واقعهم غير ذلك ولذا استحقوا العذاب ....
اللهم سدد أفهامنا للغوص في معاني كتابك العزيز ...
محب الضاد : أبو باسل


-----
من فوائد البلاغة القرآنية (5): 

يمتاز الوصف في القرآن الكريم بالدقة المتناهية التي تجعل القارئ المتأمل يعيش والألفاظ المعبرة كأنها ذوات أرواح تتحرك وتؤثر ،بل إن الوصف القرآني يجعل من اللامحسوس محسوسا واللامرئي مرئيا والمعنوي ماديا ،كل ذلك تجسيدا للرحمة المطلقة في مواضع ، والنقمة والعذاب في مواضع أُخر ...

يقول الله تعالى في سورة إبراهيم- وهو يصف عذاب المتجبرين المتكبرين الطغاة الذين عنادوا الرسل وكذبوهم وعذبوهم- ( واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد ،من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد ،يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ ) .

الفعل (واستفتحوا) جاء معطوفا على ما سبق لبيان ما سلكه بعض الأنبياء ع حين استنفدوا كل ما عندهم من وسائل الإصلاح والهداية ،وانقطعت بهم الأسباب فإنهم يطلبون النصر والفتح من الله عزوجل ،والجميل هنا أن النتيجة جاءت -لأول وهلة - سريعة مباشرة دون أيّ فواصل أو مقدمات ،وذلك في قوله تعالى وخاب كل جبار عنيد ) ...

إن التعبير بفعل الخيبة هنا جاء مصورا الحالة النفسية الأليمة التي يعيشها ذلك الجبار العنيد لأنه كان المتكبر المتسلط -وقد يكون الوصف للقلب الذي لا تدخله الرحمة ولا يقبل الموعظة- وهو العنيد المتجاوز الحد في العصيان الذي خالف الحق وردّه وهو يعرفه ...

إن إنسانا بهذه الأوصاف في الدنيا تكون الخيبة له في حدّ ذاتها عذابا أليما لا يحتمله ... وقد عبر القرآن عن النتيجة بالفعل (خاب) مع أنها ستكون في الآخرة لأن هناك ستكون الخيبة الحقيقية بدليل صور العذاب التي عرضها القرآن بعد ذلك ،والتعبير بالماضي هنا دليل التحقق والحتمية فهو أمر مسلّم به واقع لا محالة ...

اللفتة الثانية في الآيات في قوله تعالى من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد ).إن ذكر الماء هنا مقرونا بعذاب جهنم لا يمكن أن يتصوره أحد لأن جهنم عذاب وحرارة واحتراق والماء نعمة وبرد وحياة وسلام فلا يتناسب ذلك وجهنم ؛ولذا جاء وصف الماء بكلمة (صديد) ليبعد القرآن كل المعاني الجميلة الحسنة التي يمكن أن تكون للماء ،فيكون هو العذاب عينه لأن الصديد هو ذلك القيح الفاسد المتعفن الذي يكون في الجرح بين الجلد واللحم فيكون هو شرابهم ،أيّ صورة بشعة هذه ؟! 

قد يقول قائل :إن كلمة (صديد) هنا جاءت في الإعراب بدلا مطابقا من كلمة (ماء) فكأن القرآن يقول :ويسقى من صديد ...غير أن كون كلمة (صديد) صفةً هو الأرجح والأقوى في المعنى لأن ذكر الماء -الذي هو أحوج ما يكون إليه الإنسان في هذه الحالة ووصفه بهذا الوصف المتقدم - فيه امتهان واحتقار للكافرين المعاندين وبيان لشدة العذاب الذي هم فيه ....ولنا وقفة لاحقا -بمشيئة الله- مع جزء آخر في الآيات في قوله تعالى : ( ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ) ...

جعلنا الله وإياكم من العاشقين لكتاب الله والمتدبرين في آياته .

محبّ الضاد : أبو باسل

الاثنين، 27 مايو 2013

مجيء (أو ) بمعنى ( بل).

{وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } الصافات - 147

قال الفراء :

" أو هَا هنا فى مَعنى بل. كذلك فى التفسير مع صحّته فى العربيَّة." (1)

وقال في مورد أخر :

" من زعم أن ( أو ) فى هذه الآية على غير معنى بل فقد افترى على الله؛ لأن الله تبارك وتعالى لا يَشُكّ، ومنه قول الله تبارك وتعالى: {وأرسلناه إلى مِائةِ ألفٍ أَو يزِيدون}." (2)


يوجد خلاف بين البصرين والكو فيين حول مجيء ( أو ) بمعنى الواو و بمعنى ( بل ) , فالكوفيون يرون جوزا ذلك, بما لا يراه البصريون ذلك جائزا.

ذكر صاحب مغني اللبيب أن بعض الكوفيين قال أنها بمعنى الواو. (3)

في اللباب :

" ولا تكون ( أو ) بمعنى ( الواو ) ولا بمعنى ( بل ) عند البصرَّيين وأجازه الكوفَّيون وحجَّة الأوَّلين أنَّ الأصل استعمال كل حرف فيما وضع له لئلاَّ يفضي إلى اللبس وإسقاط فائدة الوضع واحتَّج الآخرون بأنَّ ذلك قد جاء في القرآن والشعر فمن ذلك قوله تعالى{ وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون } أي ويزيدون وقال تعالى : { حرَّمنا عليهم شحومهما إلاّ ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم } وهي بمعنى الواو و ( الحوايا ) عطفت على الشحوم أو الظهور وقال الشاعر [ من الطويل ]

بَدتْ مثل قَرْنِ الشمس في رونق الضُّحى
وصورتها أوْ أنْت في العْيًن أمْلَحُ

أي بل أنت

والجواب أنَّ ( أو ) في الآية الأولى لشكّ الرأي أي لو رأيتهم لقلت هم مائة ألف أو يزيدون , وقيل هي للتخيير وقيل للتقريب وقيل للتفصيل أي بعض الناس يجزرهم كذا وبعضهم كذا وأمَّا الآية الثانية ف ( أو ) تنبّه على تحريم هذه الأشياء وإنّ اختلفت مواضعها أو على حلَّ المستثنى وإن اختلفت مواضعه وهذا كما ذكرنا في دلالة ( أو ) على تفريق الأشياء على الأزمنة وأمَّا البيت فالمحفوُظ فيه ( أم أنت ) ولو قدّر صحّة ما رَوَوْا فهي على الشكّ أي صورتها أو أنت أملحُ من غيركما ولهذا كقولهم الحسن والحسين أفضل أم ابن الحنفية. " (4)


ومن اللطائف الأدبية البيت المشهور لأبي الأسود:

أُحِبُّ محمداً حُبَّاً شديداً * وعَبَّاساً وحمزةَ أو عَلِيَّا

اعترضوا عليه في قوله "أو" التي تقتضي الشكَّ، وقالوا له: أَشَكَكْتَ؟ فقال: كَرَّ، واستدلَّ بقولِه تعالى: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ} وقال: أَوَ كان شاكَّاً مَنْ أَخْبر بهذا؟ (5)

---

هوامش :
1- معاني للقراء للفراء - 4\91
- معاني القرآن - 1|229
3- مغني اللبيب : 1|62
4- اللباب علل البناء والإعراب [ جزء 1 - صفحة 425 ]
5 -الدر المصون - 1\330

بس.

لهذه الكلمة ذات استخدام واسع في حياتنا اليومية, للدلالة على الاكتفاء وعدم الرغبة في المزيد.

عندما يقدم لك أحدهم كأس ماء آخر, وأنت لا تود أن تشرب المزيد, فإنك تقول له : بس.

فما  حقيقة هذه الكلمة؟

كلمة بس, ذات أصل فارسي, وقد باتت بسبب كثرة الاستعمال من ضمن مفردات اللغة العربية, وفد أشار علماء اللغة العظام إلى هذه الكلمة في معاجمهم, فقد ذكر صاحب اللسان : " بَسْ : بمعنى حَسْبُ, فارسية. " (1)

كما أشار إليها العلامة اللغوي ابن سيده : " و بَسْ بمعنى حَسْبُ, فارسية. " (2)

وقد أشار صاحب التاج إلى هذه الكلمة : " و بس بمعنى حسب ... ووقع في المزهر أنه ليس بعربي, قال شيخنا : وقد صححها بعض أئمة اللغة .... " (3)

فكلمة " بس " من الكلمات الفارسية التي أضحت جزءا من مفردات اللغة العربية حيث صححها بعض أئمة اللغة العربية كما أشار صاحب التاج, وهناك الكثير من الكلمات الفارسية في لغتنا العربية.

-----

هوامش :

(1) لسان العرب - مادة بسس.
(2) المحكم والمحيط الأعظم في اللغة لابن سيده - مادة بسس.
(3) تاج العروس من جواهر القاموس, للعالم اللغوي الكبير محب الدين أبي الفيض السيد محمد مرتضى الزبيدي - مادة بسس.

مأتم

يستخدم الناس مأتم للدلالة على الاجتماع في الحزن, فالمفردة " مأتم" اقترن ذكرها بالحزن.

غير أن معناها لا ينحصر في اجتماع الحزن.

في القاموس :

" والمَأْتَمُ كمَقْعَدٍ : كُلُّ مُجْتَمعٍ في حُزْنٍ أو فَرَحٍ أو خاصٌّ بالنساءِ أو بالشَّوابِّ ."

وفي اللسان :

" والمَأْتم كل مُجْتَمَعٍ من رجال أَو نساء في حُزْن أَو فَرَحٍ. "

" قال أبو بكر والعامة تَغْلَط فتظنُّ أَن المأْتم النَّوْح والنياحة وإِنما المَأْتَمُ النساء المجتَمِعات في فَرَح أَو حُزْن. "

العشرق

" وادي العشرق" رواية للأديب عبدالرحيم الأحمدي, صدرت عن دار المفردات العام الماضي, تتناول الرواية أحد الجوانب الحياتية التي يعيشها المجتمع في تصوره وهو الارتباط بالأوهاوم و الإيمان بالشعوذة و اللجوء إلى المشعوذين.

ليس حديثي عن هذه الرواية, بل عن مفردة " العشرق ".

لهذه المفردة حضور في كلام كثير من الناس, ولا سيما كبار السن , فماذا يقول علماء اللغة عنها؟

تجيبنا المعاجم اللغوية عن هذا الاستفسار.

في اللسان :

العِشْرِق : شجر، وقـيل نبت، واحدته عِشْرِقَة . قال أَبو حنـيفة : العِشْرِق من الأَغْلاثِ وهو شجر يَنْفَرِشُ علـى الأَرض عريض الورق ولـيس له شوك ولا يكاد يأْكله شيء إِلا أَن تصيب الـمِعْزى منه شيئًا قلـيلا؛ قال الأَعشى: 

تَسْمَع للـحَلْـي وَسْواساً إِذا انْصَرَفَتْ، 
كما استعان بريحٍ عِشْرِقٌ زَجلُ.

قال: وأَخبرنـي بعض أَعراب ربـيعة أَنّ العِشْرِقَة ترتفع علـى ساق قصيرة ثم تنتشر شُعَبًا كثـيرة وتُثْمِر ثمراً كثـيرًا، وثمرها سِنْفُها، فـي كل سِنْفَةٍ سطران من حب مثل عَجَمِ الزبـيب سواء، وقـيل: هو مثل حب الـحِمَّصِ وهو يؤكل ما دام رطبًا ويطبخ، وهو طيب.


قال الأَزهري: العِشْرِق من الـحشيش ورَقُه شبـيه بورق الغارِ إِلا أَنه أَعظم منه وأَكبر، إِذا حركته الريح تسمع له زَجَلا وله حَمْل كحَمْل الغارِ إِلا أَنه أَعظم منه. وحكي عن ابن الأَعرابـي: العِشْرِق نبات أَحمر طيب الرائحة يستعمله العرائس، وحكى ابن بري عن الأَصمعي: العِشْرِق شجرة قدر ذراع لها حب صغار إِذا جف صوتت بمَرِّ الريح. 

وفي التهذيب :

وقال ابن الأعرابي: العِشْرِق نبات أحمر طيّب الرائحة تستعمله العرائس. 

وفي العين :

لولا الأماضيحُ وحَبُّ العِشْرِقِ 
لَمِتُّ بالنَّزْواءِ مَوتَ الخِرْبَقِ