الجمعة، 19 يونيو 2015

إضاءات في بلاغة القرآن الكريم للدكتور علي إبراهيم البراهيم

هذه مجموعة من الإضاءات و التأملات القرآنية لصديقي الدكتور علي إبراهيم البراهيم في النحو القرآني و البلاغة القرآنية أضعها هنا لما تحتويه من فوائد ونحن نعيش أجواء شهر القرآن الكريم

من فوائد البلاغة القرآنية (1):

من بديع بلاغة القرآن الكريم جمال التكرار المنسجم الذي يقبله الذوق السليم ولا تملّه الأذن ولا تنفر منه النفس ، وذلك كثير في القرآن .... ولكنّ ما جاء في سورة الرحمن من تكرار آية ( فبأيّ آلاء ربكما تكذبان ) أمر ملفت يستدعي الوقوف والتأمل ...

تكررت الآية الشريفة إحدى وثلاثين مرة وهو من أكثر صور التكرار في القرآن ، والجميل أن هذا التكرار قد سبقه تمهيد رائع بتكرار كلمة ( الميزان) في الآيات الأولى من السورة إذ لم تأت الآية ( فبأيّ آلاء ...) إلا بعد اثنتي عشرة آية ، وقد تكررت كلمة (الميزان) ثلاث مرات في ثلاث آيات متواليات لتمهد للإذن بلحن موسيقي عذب لنتقبل صور التكرار القادمة ولنألفها وتأنس بها النفس فلا تفاجأ بفواصل الآية المكررة ...

إن الجو السائد في سورة الرحمن هو تعداد النعم على الخلق إنسا وجنّا فكانت الآية تأتي بعد ذكر كل نعمة أو مجموعة من النعم لتقوم بدور التذكير والتقرير ، وأن هذه النعم لا مجال لإنكارها أو تكذيبها ، ولكي يدرك الإنسان مدى فضل الله عليه ...

زيادة على ذلك فإن في التكرار نوعا من التوبيخ والتقريع لأن في تعداد النعم تقريع لمن أنكرها وجحد حق المُنعم ...

ولكنّ المتأمل في تكرار هذه الآية يجد أنها جاءت بعد ما هو ليس بنعمة كالوعيد والتهديد وصور العذاب كما في قوله تعالى : ( يرسل عليهما شواظ ...) وقوله : ( يعرف المجرمون ... ) وقوله ( هذه جهنم التي يكذب ...) فكيف يستقيم التوجيه السابق ؟!

نقول إن البلاغيين لهم توجيه جميل . وهو أن الإنذار والوعيد وبيان مآل الضالين فيه عصمة للإنسان من الوقوع فيما وقعوا فيه فيكون له المصير نفسه ، فتكون هذه المواضع مندرجة تحت النعم فإيصال الخير والدعوة إليه نعمة ودفع الشر والتحذير منه نعمة أيضا ...

- ما أروع أن نقف على آيات الله متأملين متدبرين ... وفقنا الله وإياكم للتدبر في كتاب الله العزيز ...

محب الضاد : أبو باسل


-----
من فوائد البلاغة القرآنية (2) : 

إن بلاغة التشبيه في القرآن الكريم تعتمد على بناء الصورة بناء محكما ناظرا لكل العلاقات الداخلية والخارجية ، تمتزج فيها المفردة بالسياق والمشبه بالمشبه به والمستعار بالمستعار منه والحقيقة بالمجاز فتبدو لنا صورة رائعة أخّاذة تستأثر بإدراك العقول حينا ، وتمتلك مشاعر النفس وشغاف القلوب حينا آخر ....

إذا وقفنا على بناء الصورة الجزئية في تشبيهات القرآن نجدها مرتبطة ارتباطا وثيقا بالإطار العام للفكرة المطروحة الواردة في السياق ...

لنتأمل قوله تعالى في سورة (هود) واصفا سفينة نوح حين حلّ في قومه العذاب وجاءهم الطوفان : (وهي تجري بهم في موج كالجبال) المشبه هنا (الموج) والمشبه به (الجبال) ووجه الشبه : العلو والارتفاع والضخامة ....

إن الصورة فيها هول وترويع وهيبة فالأمواج عاتية باعثة على الخوف ...فمع التناسب الشكلي في الصورة التشبيهية هناك تناسب نفسي شعوري أيضا وهو حالة الرهبة والخوف ...إن الصورة ليست مرعبة لمن هم على متن السفينة بل هي مرعبة لمن تخلف عنها أيضا ... إن السفينة تمثل النجاة والأمان الذي حُرم منه كثير ممن غلبت عليه شقوته ولم يسمع لنداء نبي الله ع ... إن الصورة تختزن في ذهن المتلقي هذه الصورة المهولة لمن يعاند ويعرض عن نداء الحق ولذلك فإن التشبيه بالجبل فيه إشارة إلى الأمن والحماية فالجبل يلجأ إليه الإنسان وقت الشدة والخوف ...

نحن نفهم الصورة الآن وندرك هول الموقف ولكن ابن نوح ع لم يكن يدرك ذلك المشهد واعتقد أنه ناجٍ من الغرق فقال : (سآوي إلى جبل يعصمني من الماء ) ولم يكن يعلم أن الموج سيعلو الجبال فلن تعصمه ولم يكن يعلم أن الموج كالجبال وهو التشبيه الوارد ....

هنا أقتنص معنى دقيقا لطيفا في الآية يتمثل في حرف الجر (في) في قوله في موج كالجبال) فهي هنا تعني الظرفية المكانية بأجلى صورها وأدق معانيها فقد أظهرت لنا حالة الامتزاج التام في الموقف المهول فالعادة أن يستخدم مع الفعل (يجري أو تجري) حرف الجر (على) لكن عندما نقول (في) فإن الدلالة موغلة في الظرفية والاشتمال والإحاطة بالشيء وبالأخص في صورة بيانية كالصورة القرآنية ...

وهناك صور كثيرة يمكن أن نكشفها بالتأمل الدقيق في تعبير موجز مركز أتركها خشية الإطالة ...
جعلنا الله وإياكم ممّن يتدبر في كتابه العزيز

محب الضاد : أبو باسل


-----
من فوائد البلاغة القرآنية (3): 

نتابع هنا ما أشرنا إليه في فائدة سابقة حين تحدثنا عن موسيقى الألفاظ وجرس الحروف في القرآن الكريم ...

إن كثيرا من ألفاظ القرآن تحمل معها إيحاءات كثيرة تفتح مخيلة القارئ أو السامع المتأمل على معاني عجيبة طريفة ،ولا سيّما إذا امتزجت تلك الألفاظ مع السبك البديع لنظم القرآن ،فقد يكون اللفظ غريبا قليل الاستعمال ، ولكنّ حسنه وتجانسه يظهر متجليا في أبهى صوره في سياقات القرآن ...

إن (الرافعي) -وهو ممن كتب في إعجاز القرآن وبلاغته- قد التفت إلى غرابة كلمة (ضيزى) في سورة النجم من قوله تعالى (ألكم الذكر وله الأنثى، تلك إذا قسمة ضيزى) ، فيرى أن غرابة اللفظة أشد الأشياء ملاءمة لغرابة هذه القسمة التي أنكرها القرآن ،فالمعاني السابقة واللاحقة للآية كلها تُختزَل في هذه الكلمة إذ جمعت الإنكار والتهكم .(انتهى كلام الرافعي -بتصرف-)...
أقول : لا نريد -هنا- أن نقف عند تفسير الآيات والمعاني الواردة فيما سيق ولحق الآية المعنية (تلك إذا قسمة ضيزى) فالمتأمل يدرك جور افتراءات المشركين فيما نسبوه لله عزوجل ، ولكن لنا هنا إشارتان فيما يخص كلمة (ضيزى) :
الأولى : إن كلمة (ضيزى) هي في الأصل (ضئزى)مهموزة وهي بمعنى (جائرة) ،ولكن القرآن لم يأت بها مهموزة على الأصل بل جاءت بالياء-وهي ظاهرة موجودة في اللغة كثيرا إذ تُقلب الهمزة ياء في كثير من الكلمات ، فهل من غرض بلاغي لهذه الظاهرة هنا في هذه الكلمة ؟!
إن حرف الضاد من الحروف الثقيلة في النطق ومن أصعبها ولا تظهر شدته إلا بمدّه ، والهمزة بعد الضاد تؤدي إلى قطعه فينقطع معه النفس بالحرف ،وأما الياء التي امتدت بعد الكسر فهي تعطي الحرف فسحة للظهور والبروز فتظهر شدته من لينه ،وهو ما يتناسب مع دلالة اللفظة ...

الثانية : إن الغرابة التي نستشعرها في كلمة (ضيزى) ناشئة من اجتماع حرفي الضاد والزاي فيها ،إذ من النادر جدا في ألفاظ اللغة العربية أن يجتمع هذان الحرفان في كلمة واحدة ، وكلا الحرفين فيهما من الصفات ما يخلق من اجتماعهما في كلمة واحدة باعثا قويا على إيحاءات كثيرة ودلالات تختزل كل علامات الاستفهام والتعجب والدهشة التي ترتسم في مخيلة القارئ أو المستمع للآيات الواردة فيها هذه اللفظة التي بدت منسجمة متناسقة مقبولة بعد أن كانت ثقيلة نابية غريبة ....

نسأل الله أن يلهمنا التدبر في آيات كتابه العزيز ...

محب الضاد : أبو باسل


--------------
من فوائد البلاغة القرآنية (4) : 

من الفنون البلاغية الجميلة في علم المعاني فنّ الالتفات الذي يؤدي إلى إيحاءات كثيرة ولطائف وأسرار جمّة تحتاج إلى ذوق رفيع وحس شفاف ،وهذا الفنّ -كما عبر العلامة ابن الأثير - يسمى شجاعة العربية لأن الشجاعة هي الإقدام وذلك أن الرجل الشجاع يركب ما لا يستطيعه غيره ويتورد ما لا يتورده سواه ، وكذلك هو الالتفات في الكلام فإن اللغة العربية تختص به دون غيرها من اللغات . (انتهى) ...

ولسنا هنا بصدد إثبات وجود هذا الفن في اللغات الأخرى من عدمه ... وجميل ما عبّر به الدكتور محمد أبو موسى عن هذا الفن معلقا على كلام ابن الأثير ،يقول: " إنك ترى الكلام بهذا الفن يلتفت ههنا وههنا وكأن الأسلوب يتحرك ويتلفت " انتهى .

فما معنى الالتفات في الأسلوب البليغ ؟ 

عرّف البلاغيون الالتفات بعدة تعريفات ولهم في ذلك مذهبان : مذهب الجمهور ،ومذهب السكاكي ،وسنأخذ -هنا- بقول الجمهور ،يقولون : إنه التعبير عن معنى بطريق من الطرق الثلاثة بعد التعبير عنه بطريق آخر منها ،والطرق الثلاثة هي :التكلم والخطاب والغيبة . ولكي نبسط العبارة فنجعلها أكثر سهولة نقول : هو الانتقال من ضمير المتكلم إلى ضمير المخاطب أو الغيبة ،ومن ضمير المخاطب إلى ضمير التكلم أو الغيبة ، وذلك في سياق واحد. وقد زخر القرآن الكريم بأمثلة كثيرة على هذا الفن البديع وقف عندها البلاغيون وقفة تأمل فخرجوا بإيحاءات وأسرار لطيفة تخدم المعنى وتجلّي الصورة ،ومثال على ذلك قوله تعالى في سورة يونس : "...حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكوننّ من الشاكرين "

حين نتأمل الآية في مطلعها نجد فعل الخطاب (كنتم) وبعده جاء فعلٌ انحرف بالسياق من الخطاب إلى الغيبة وهو الفعل (وجرين بهم) فلِمَ لم يقل القرآن وجرين بكم) ليتناسب وفعل الخطاب قبله (كنتم) ؟!

المخاطَبون في الآية هم الذين إذا أنجاهم الله من هول البحر والموج بغوا في الأرض بغير الحق وعادوا إلى عهدهم السابق من الانحراف والبغي والفساد والشرك بالله ،وهذا فعل شنيع عجيب يستحق صاحبه التشهير والعتاب والتوبيخ ،فالعدول من الخطاب إلى الغيبة فيه امتهان لهؤلاء وتحقير لهم لأنهم كانوا في مقام الخطاب حين كانوا في الفلك في مقام الشهود والوجود ،ولمّا جرت بهم الريح ذهبوا بعيدا عن مقام الخطاب فلاءم حالهم حال الغيبة فصارت قصتهم تُروى لغيرهم ،كمن يروي قصةً أحداثها قد مضت وأشخاصها غائبة ...

هذا ما ألفت إليه بعض البلاغيين في الآية ،وأضيف هنا فأقول : لقد توالت الأفعال المرتبطة بحالة الغيبة بعد الفعل (جرين بهم) نحو: جاءتها،جاءهم،أحيط بهم، وذلك للإمعان في حالة البعد المعنوي الذي كانوا فيه حين داهمت الريح الفلك ،والجميل أن نقف هنا عند الفعلين (جاءتها) و(جاءهم) ...ففي الأول جاء ضمير الغيبة لغير العاقل ،وفي الثاني جاء لجمع العاقل ...

في الفعل الأول (جاءتها) الضمير (الهاء)يعود على الريح الطيبة التي فرحوا بها ،وليس على الفلك كما يتوهم بعضهم ،وهنا يشير القرآن إلى ذهاب الريح بالريح مع الفارق الكبير بين الريحين ومع أن المتأثر بالريح هي الفلك إلا أن عود الضمير في فعل الريح على الريح هو إثباتٌ للتأثير في المؤثر ،ومن آثار الريح هو هيجان البحر فترتفع أمواجه وتتلاطم ويكون في ذلك رعب وخوف لمن هم في الفلك ؛ولذا قال الله تعالى في الفعل الثاني (فجاءهم الموج) بضمير الغيبة العائد على العاقل ليصور الحالة الرهيبة التي وقعوا فيها فينشدون إلى الله المنقذ ويخلصون في الدعاء لأنهم وقعوا في مأزق شديد إلا أن واقعهم غير ذلك ولذا استحقوا العذاب ....
اللهم سدد أفهامنا للغوص في معاني كتابك العزيز ...
محب الضاد : أبو باسل


-----
من فوائد البلاغة القرآنية (5): 

يمتاز الوصف في القرآن الكريم بالدقة المتناهية التي تجعل القارئ المتأمل يعيش والألفاظ المعبرة كأنها ذوات أرواح تتحرك وتؤثر ،بل إن الوصف القرآني يجعل من اللامحسوس محسوسا واللامرئي مرئيا والمعنوي ماديا ،كل ذلك تجسيدا للرحمة المطلقة في مواضع ، والنقمة والعذاب في مواضع أُخر ...

يقول الله تعالى في سورة إبراهيم- وهو يصف عذاب المتجبرين المتكبرين الطغاة الذين عنادوا الرسل وكذبوهم وعذبوهم- ( واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد ،من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد ،يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ ) .

الفعل (واستفتحوا) جاء معطوفا على ما سبق لبيان ما سلكه بعض الأنبياء ع حين استنفدوا كل ما عندهم من وسائل الإصلاح والهداية ،وانقطعت بهم الأسباب فإنهم يطلبون النصر والفتح من الله عزوجل ،والجميل هنا أن النتيجة جاءت -لأول وهلة - سريعة مباشرة دون أيّ فواصل أو مقدمات ،وذلك في قوله تعالى وخاب كل جبار عنيد ) ...

إن التعبير بفعل الخيبة هنا جاء مصورا الحالة النفسية الأليمة التي يعيشها ذلك الجبار العنيد لأنه كان المتكبر المتسلط -وقد يكون الوصف للقلب الذي لا تدخله الرحمة ولا يقبل الموعظة- وهو العنيد المتجاوز الحد في العصيان الذي خالف الحق وردّه وهو يعرفه ...

إن إنسانا بهذه الأوصاف في الدنيا تكون الخيبة له في حدّ ذاتها عذابا أليما لا يحتمله ... وقد عبر القرآن عن النتيجة بالفعل (خاب) مع أنها ستكون في الآخرة لأن هناك ستكون الخيبة الحقيقية بدليل صور العذاب التي عرضها القرآن بعد ذلك ،والتعبير بالماضي هنا دليل التحقق والحتمية فهو أمر مسلّم به واقع لا محالة ...

اللفتة الثانية في الآيات في قوله تعالى من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد ).إن ذكر الماء هنا مقرونا بعذاب جهنم لا يمكن أن يتصوره أحد لأن جهنم عذاب وحرارة واحتراق والماء نعمة وبرد وحياة وسلام فلا يتناسب ذلك وجهنم ؛ولذا جاء وصف الماء بكلمة (صديد) ليبعد القرآن كل المعاني الجميلة الحسنة التي يمكن أن تكون للماء ،فيكون هو العذاب عينه لأن الصديد هو ذلك القيح الفاسد المتعفن الذي يكون في الجرح بين الجلد واللحم فيكون هو شرابهم ،أيّ صورة بشعة هذه ؟! 

قد يقول قائل :إن كلمة (صديد) هنا جاءت في الإعراب بدلا مطابقا من كلمة (ماء) فكأن القرآن يقول :ويسقى من صديد ...غير أن كون كلمة (صديد) صفةً هو الأرجح والأقوى في المعنى لأن ذكر الماء -الذي هو أحوج ما يكون إليه الإنسان في هذه الحالة ووصفه بهذا الوصف المتقدم - فيه امتهان واحتقار للكافرين المعاندين وبيان لشدة العذاب الذي هم فيه ....ولنا وقفة لاحقا -بمشيئة الله- مع جزء آخر في الآيات في قوله تعالى : ( ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ) ...

جعلنا الله وإياكم من العاشقين لكتاب الله والمتدبرين في آياته .

محبّ الضاد : أبو باسل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق